صاحب من يقرأ حتى تقرأ (3)

كان والدي الحاج عدنان الصواف الدوجي رحمه الله عالما زاهدا، نشأ بين العلماء فوالده العلامة الشيخ عارف الصواف الدوجي، فقيه حنفي كبير، ومن علماء اللغة، وكبار الأولياء، حضر والدي مع والده مجالس المحدث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني، ودرس على كبار العلماء في الكلية الشرعية في بيروت، وكان من أصدقائه فيها الشيخ حسن خالد مفتي لبنان، ثم درس في الكلية الشرعية في زقاق النقيب وتخرج بها سنة (١٩٤٥م)، وكان من شيوخه فيها: الشيخ محمود ياسين، والشيخ محمد صالح الفرفور، والشيخ محمود الرنكوسي، والشيخ علي الطنطاوي وهذه الطبقة.
وقد ذكره الشيخ علي الطنطاوي في الجزء الرابع من ذكرياته، مع عدد من أنبه من تتلمذ عليه في الكلية الشرعية ببيروت.
آثر الخفاء، وزهد في الشهرة، وكان يقرئ القرآن، والفقه الحنفي، وشرح الألفية لابن عقيل لبعض طلاب العلم في قرى داريا، والمليحة، وكفر سوسة.
وكان جوادا منفقا.
قرأت على كثير من العلماء وأخذت عنهم فوجدته يتفوق عليهم علما، وذكاء، واستحضارا للمسائل، وكان يتقن الفرنسية، وفي جعبته الكثير من الأمثال والأشعار التي كان يحسن توظيفها.
كان أبي رحمه الله محافظا على صلاة الجماعة، خمس مرات في اليوم، شديد الورع.
وكان كثير القراءة، لا تكاد تراه ابدا إلا والمصحف بيده، يختم في كل اسبوع ختمة.
ولا تكاد تراه ابدا إلا والكتاب بيده، لا يتركه حتى يغلبه النوم فينام والكتاب على صدره، أو على وجهه.
كنت وأنا صغير ألعب، وأنا ابن عشر سنوات أو أكثر يناديني ويقول لي: اقرأ من هذا الكتاب، ويشير بيده إلى موضع، ويقول: من هنا !
او يمسك ورقة التقويم فيجد فيها فائدة، فيناديني لأقراها بين يديه.
فأتعلل بالانشغال، فيشجعني على ذلك ويغريني بقوله: اقرأ ولك مني مئة ليرة سورية!!!
وهي تعادل في ذلك الوقت عشرة دولارات.
ومن الكتب التي كان يكثر من قراءتها: (مجمع الأمثال) للميداني، و(المستجاد من فعلات الأجواد) للتنوخي، و(خطط الشام) لكرد علي، و(رجال من التاريخ) للطنطاوي، و(صندوق الدنيا) للمازني، و(سيد قريش) لمعروف الأرنؤوط .
وربما وقع بيده أحد الكتب المقررة علي في المدرسة، أو في الكلية، فكان لا يتركه حتى يقرأه كله، وينبهني على بعض الفوائد التي فيه، وكنت أقول له: ما ولهذا الكتاب!!
فيقول لي: أي كتاب تقرأ تستفد.
ومما أذكره ولا انساه أنه جاءني مرة في سنة ١٩٨١م وعمري يومئذ إحدى عشرة سنة، وبيده ختم، علبة حبر، وقال لي أحضر ذلك الكتاب وتعال!
فأحضرته، وإذ به يطبع عليه من الختم الذي بيده: من كتب محمد شريف عدنان الصواف، دمشق !!
سررت بهذا، بل دهشت، وبدأت اطبع ذلك في أول الكتب، بل صرت اشتري الكتب لأطبع ذلك عليها، فكانت هذه إحدى الوسائل التي شجعني من خلالها على القراءة بعد الإغراء بشيء من المال.
ومن طريف ما تعلمت منه في هذا، أنه كانت له اخت غالية عليه، وهي عمتي السيدة نازك الصواف الدوجي، زوجة الأستاذ الفاضل فائز دياب، وكان بينها وبين والدي مجلس أسبوعي لقراءة القرآن، وكلما ذهبت إلى العمرة سألته ماذا تحب أن اهديك؟
فيقول لها سأختار كتابا يكون هديتك لي وتذكارا لعمرتك!!
وكان يشتري الكتاب على نفقتها ثم يكتب عليه اهداءها مع تاريخ تلك العمرة.
ومن تلك الهدايا التي اذكرها (من وحي القلم) لمصطفى صادق الرافعي، و(تفسير القرآن الكريم للعلامة ابن كثير)، و(الاختيار لتعليل المختار) لابن مودود الموصلي .
وهذا من غرائب ما سمعت .
رحمه الله، وجزاه الله عنا خيرا، كان أول شيخ لي تعلمت منه تجويد القرآن، وصلاة الجماعة، وصلة الرحم، والمبادرة إلى الإنفاق، وحب المساكين، والترفع عن الدنيا.
وتعلمت منه حب دمشق.
وكثرة القراءة.

 

Start typing and press Enter to search

إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي